برعاية

بيرت تراوتمان - النازي الصالح الذي قهر الموت بعنق مكسور

بيرت تراوتمان - النازي الصالح الذي قهر الموت بعنق مكسور

ما زلت أتألم كلما حرّكت رأسي بشكلٍ مفاجئ.. يُزعِجني أحيانا أن يَذكُرني الناس بتلك الواقعة فقط.. حسنًا.. لا لوم عليهم.

أجلس هنا في مقر أوركسترا برلين مُنتظرا جلالتها.. الملكة إليزابيث الثانية.. سأقابلها بعد قليل.. تريد أن تلقي علي السلام شخصيًا..

أعطَوني بالأمس وسام الإمبراطورية البريطانية.. من كان ليصدِق!

بينهم نساء وأطفال.. دُفعوا حتى حافة القبور التي نبشوها بأنفسهم.. وُجهَت الأسلحة إلى مؤخر رؤوسهم.. أطلِقَت النيران.. مجموعة جديدة من المدنيين العُزل إلى حافة القبور.. الأسلحة إلى مؤخر رؤوسهم.. وأطلقت النيران..

في تلك الحرب التي جئتها راغبا فيها، تسببتُ في موت الكثيرين، وباغتُ الموت حتى يأس مني.. رأيت أشلاءً متناثرة وأطرافا مبتورة وأمعاءً تهب من أجساد أصحابها.. أما ما شاهدته في تلك الغابة، هذا الإعدام الجماعي الذي لم يجب أن تقع عليه عيني، فكان شيئا مختلفا..

أُدعى "برنهارد كارل تراوتمان".. ستدعوني بـ "برند".. وإن كنت مقربا جدا؛ فستدعوني بـ "برني"..

وُلدت في 22 أكتوبر 1923 بمدينة "بريمن" الألمانية.. 5 سنوات بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى..

امتلكنا منزلا في منطقة" فاله" الخاصة بالطبقة المتوسطة، عمل أبي بمصنع للأسمدة الكيماوية، فيما تفرغت أمي "فريدا" لتربيتي أنا وشقيقي الأصغر "كارل هاينتس". بيد أن حضوري لهذا العالم تزامن مع الكساد المفجع الذي مرت به ألمانيا بعد الهزيمة في الحرب الكبرى.

عمت البطالة، وتضور الناس جوعا، انهارت العملة وصارت بلا قيمة، تضاعفت نسبة الوفيات بين المواليد، وأسرتنا لم تكن في منأى عن ذلك..

فقدَ أبي عمله بمصنع الأسمدة، واضطررنا لبيع منزلنا والانتقال لشقة صغيرة بمنطقة سكنية أقل مستوى. وبحلول العام 1932، امتلكَت ألمانيا 60 مليون عاطلا..

تنقّل الشعب الألماني بين غرفات الجحيم مسددا فاتورة لا تنتهي أرقامها، عاقبنا الحلفاء الأوغاد بصرامة، اجتزأوا أراضينا، قيّدوا تسليحنا، اغتالوا اقتصادنا.

أما أنا، فكنت طفلا جامحا، لا أكف عن الحركة، جرّبت عديد الرياضات في صغري، أحببت كرة القدم وكرة اليد خصوصا.. وأتدرون ماذا أحببت أيضا؟

أحببت البريق في أعين والداي أثناء مشاهدتهما خطب أدولف هتلر، جرعة الأمل للشعب البائس..

في عام 1933، وصل الحزب النازي للسلطة بوقتٍ أكملتُ فيه عامي العاشر، وعلى الفور انضممت لمنظمة "شباب هتلر" التابعة للحزب، والتي استهدفَت الشبان ما بين 10 و18 عاما، كانت في نظري أشبه بالكشافة.. سروال أسود قصير، قميص زيتي، ربطة عنق، شارة الانتساب للمنظمة.. خفّفت شعري من الأجناب ومن الخلف، أحضرت كشاف الإضاءة في جرابه الأسود كما اشترطوا.. وقمت بأداء التحية النازية في فخر وزهو!

تلك المنظمة، مكّنت الأطفال الألمان لاحقًا من الوقوف في وجه مدرعات الحلفاء بالأسابيع الأخيرة من الحرب..

وبجانب المجهود البدني، أجلسونا وأشبعوا عقولنا الصغيرة بالأفكار النازية، كنا لنشي بوالدينا إن تطلب الأمر..

وفي العام التالي، حضر فرد جديد لأسرتنا، تبنينا الطفلة "هيلجا" ابنة عمي.. وأين ذهب عمي؟

كان شيوعيا معارضا، اختفى في سجون النظام لعشر سنوات.. لم يرغب الكثيرون في نيل مصير مشابه بالتأكيد.. ولذلك التزمنا الصمت أمام كثير من التجاوزات التي لم تطلنا..

تعلقتُ بمنظمة شباب هتلر.. كان جليا تفوقي بدنيا على كافة أقراني.. لم أقع في غرام الدراسة كثيرا، إلا أنني أذكر دروس الوراثة في مادة الأحياء، تلك التي تناولَت تفوق "الجنس الآري" على بقية الأجناس.. ووقوفي أمام المرآة تركني أمام شاب رياضي أشقر ذو عين زرقاء ووسامة فائقة.. كنت التجسيد المثالي للجنس الآري.

بيد أن العام 1936 حمل تشويشا كبيرا في أفكاري التي سُقيتها..

استضافت برلين دورة الألعاب الأولمبية.. تابعتها باهتمام كبير، وبُهرت بالافتتاح العظيم، لكنني وقفت حائرا أمام تتويج 14 زنجيا أمريكيا بـ18 ميدالية كاملة، منها 8 ذهبيات.. كيف لهذا الجنس المتدني أن يحقق تفوقًا على أي صعيد!

تحسّنَت الأحوال الاقتصادية كثيرا، شرع هتلر في إنشاء شبكة طرق حديثة، مُدت السكك الحديدية، زاد إنتاج السيارات المحلية، وعملت المصانع بأقصى طاقاتها.. اختفت البطالة في ألمانيا بحلول العام 1938.

في عام 1543، وقبل 3 سنوات على وفاته، نشَر "مارتن لوثر" كتابه الشهير "عن اليهود وأكاذيبهم". المُصلِح البروتستانتي العظيم كتب حفنة من أشرس وأكثر الكلمات حدة على الإطلاق في حق اليهود.

بعد مرور عدة قرون، تحديدا عام 1933، واحتفالا بالذكرى السنوية رقم 450 لميلاد مارتن لوثر، أمَر هتلر بطباعة الكتاب على صعيد واسع حتى يصل بسهولة لكل منزل في الرايخ الثالث.

بالرغم من حداثة عمري، إلا أن ملاحظة اختفاء زملائي اليهود في المدرسة كانت ممكنة..

مع مرور الوقت، بدا أن نهوض هذه الأمة مرتبطا بسحق اليهود الذين وجّهت إليهم كافة أصابع الاتهام فيما وصلت إليه ألمانيا خلال وبعد الحرب العالمية الأولى.

استعمالهم الأسلوب الربوي في الإقراض أكسبهم كراهية مكبوتة، انفجرت مع انفراد الحزب النازي بالسلطة. أذكر هذا الرجل من أصدقاء أبي، تراكمت عليه الديون بسبب شخص يهودي.. لم يكن سهلا إظهار التعاطف مع هؤلاء الجرذان بعد ما مارسوه علينا بحنكتهم المالية الفائقة.

أما جوزيف جوبيلز، وزير الدعاية والإعلام، والرجل الثاني في ألمانيا النازية بعد هتلر، فعرف كيف يجعلنا متأكدين من نفورنا عنهم، الأفلام الوثائقية التي أشرف على إنتاجها، شبّهت اليهود بالجرذان الجالبة للطاعون والجذام، إنهم ماكرون قساة جبناء، مسؤولون عن 34% من تجارة المخدرات، 47% من السرقات، 98% من الدعارة.

في 9 نوفمبر 1938، تجمّعت أنا وأصدقائي حول المذياع لمتابعة أحداث "ليلة الزجاج المهشم"، عملية التطهير الكبرى التي نُفذت في حق يهود ألمانيا والنمسا، تم اعتقالهم وقتلهم، حُرق ودُمر ونُهب 8315 متجرا وحُطمت واجهاتها، أُضرمت النيران في 171 مسكنا خاصا باليهود، بالإضافة إلى تدمير وحرق ما مجموعه 267 معبدا يهوديا.

امتلأت الشوارع بالزجاج المحطم جراء هذه التصفية العرقية، ونحن شعرنا بالارتياح، لعلهم يستحقون ذلك بعد أن أكلوا حقوقنا وتمتعوا برغد العيش وكدّسوا الذهب في وقت كان خروجنا لشراء طعام الغداء يستدعي اصطحاب أزكبة من الأموال معدومة القيمة.

عندما وصل هتلر إلى السلطة عام 1933، احتوت ألمانيا على 600 ألف يهودي. بحلول العام 1939، تقلص عددهم إلى 210 ألفًا، منهم 170 ألفًا من المعتقلين.

مع انطلاق الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 واحتلالنا لبولندا، كنت أعمل كصبي لميكانيكي، كنت في السادسة عشر من عمري، وكنت آلة قتل ألمانية مثالية مكتملة الصنع مستعدة للانفجار في أقرب حين.

في العام التالي، وبعمر السابعة عشر، تطوعت للانضمام إلى الجيش الألماني..

"أقسم بالرب، أن أطيع بلا قيد أو شرط، أوامر فوهرر الرايخ الألماني والشعب الألماني والقائد الأعلى للجيش: أدولف هتلر، وأنني على استعداد أن أقدّم حياتي فداءً لهذا القسم"

ردّدته، وبت رسميًا عضوًا في اللوفتفافه (Luftwaffe - القوات الجوية).. رغبت أن أصير طيارا بالطبع، لكن تعليمي المتدني لم يشفع لي، فوضعوني كمُشغِلٍ لأجهزة الاتصال، وظيفة مملة لم تناسبني ولم أناسبها، فكيف لشاب كامل الأوصاف جسديا مثلي أن يجلس أمام جهاز في غرفة مغلقة والحرب دائرة بالخارج؟ وأنا لم أتمتع بالكفاءة على أي حال؛ فكان الحل الوسط: التحقت بكتيبة المظلات.

في الأسابيع الأولى، خدمت في بولندا، كان الوضع هادئا هناك بتلك الفترة، وكنت بعيدا جدا عن الخطوط الأمامية.. شعرت بالملل.

في إحدى المرات، طلب مني ضابط إحضار سيارة لأجل التحرك.. ذهبت وملأت محركها بالرمال، فأبت الحراك وأعطتني وقتا أطول أنا وزملائي.. كان مقلبا مضحكا حتى تلك اللحظة، عندما تقدم رقيب لفحص السيارة، ولا أعلم ماذا حدث، لكن النيران اشتعلت في يديه، وأنا تعرضت للاعتقال فورا..

في المحاكمة العسكرية، نلت عقوبة الحبس لـ3 أشهر، إلا أني شعرت بألم قاتل في بطني بأيامي الأولى في السجن.. اتضح معاناتي من التهابات حادة في الزائدة الدودية، وبالتالي قضيت أغلب فترة عقوبتي في المستشفى..

في أكتوبر 1941، تم نقلي إلى أوكرانيا، والتحقت بفرقة المشاة الخامسة والثلاثين، مهمتنا في الأساس كانت مباغتة وضرب خطوط الإمداد الخاصة بالجيش الأحمر السوفييتي..

الشتاء كان قارصا.. لم نقدر على دفن الموتى من صلابة الأرض!

في إحدى الليالي، استيقظت أنا وأحد أصدقائي على صوت أعيرة نارية قادمة من الغابة المجاورة للمعسكر، تملّكنا الفضول، وتلمّسنا طريقنا في الظلام سيرا تجاه مصدر الصوت.

اقتربنا بشكل كافٍ، وما أن اتضحت الرؤية بعض الشيء، حتى همس صديقي بصوت مخنوق:

الـ إس إس (S.S.) اختصار لـ شوتسشتافل (Schutzstaffel)، أي الوحدة الوقائية، جناح عسكري للحزب النازي، لم يكونوا جنودًا أو حفنة من الرجال حاملي الأسلحة، كانوا أعداء الإله على هذه الأرض، الرعب يفر هلعا أمامهم، يرددون أغنيتهم التي اعتادت أن تترك ارتياحا في نفسي حتى تلك الليلة.. كانوا مسؤولين عن أغلب جرائم الحرب التي قامت بها ألمانيا.

أما ما وقعت عليه أعيننا، فكان عملية إعدام جماعية لعشرات من اليهود.. شيوخ، نساء، أطفال، أجبروهم على حفر قبورهم، ودفعوهم لحافتها، واقتلعوا أرواحهم..

لم أقدر على المشاهدة، بللت سروالي، كنت في الثامنة عشر من عمري، ولا أدري فعلا سبب هروبي عائدا، أخشيت أن يكشفني أحد جنود الإس إس فيُلقى جسدي إلى جانب يهودي؟ أم كنت أفر هربا من تلك الحرب برمتها؟

في اليوم التالي، لم أتحدث عن الأمر مع أي شخص، حاولت تناسيه مرارا، لكنه ظل الكابوس الذي أفزعني في سباتي كل ليلة حتى انتهاء الحرب..

بحلول الربيع، تم ترقيتي إلى رتبة عريف، كان ذلك قبل أن أقع أسيرا في أيدي الروس!

حديثٌ دار بيننا بشكل دائم على مدار تواجدي في الجبهة الشرقية: إذا تأكدت من أن وقوعك في أسر الروس بات وشيكا، فاقتل نفسك، لأنك ستموت في سجونهم بأي حال بعد أن يرهقونك في أعمال البناء ويتركونك لتتضور جوعا.

حسنا.. أنا لم أقتل نفسي، وبت أسيرا ألمانيا في أيدي الشيوعيين، أرسلوني مباشرة لترميم الكباري المتضررة، ويمكنكم أن تتأكدوا من جرأتي عندما تدركون بأنني وضعت حياتي على المحك وقررت الهرب.. ونجحت في ذلك.. وصلت سالما للخطوط الأمامية الألمانية!

تم ترقيتي إلى رتبة رقيب، وتحصلت على 5 ميداليات لبسالتي على الجبهة الشرقية، بما في ذلك الصليب الحديدي من الدرجة الأولى.. ما عدت أحتفظ به الآن..

في 6 يونيو 1944، قام الحلفاء بإنزالهم البحري على شواطئ نورماندي في فرنسا، الأمر الذي منحهم التفوق على الجبهة الغربية حتى نهاية الحرب.

وعلى الفور، تم نقلي للجبهة الغربية في أعقاب هذا الإنزال، لعلنا نقدر على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إلا أننا انسحبنا من أرض تلو الأخرى..

وقعت في الأسر للمرة الثانية، على يد المقاومة الفرنسية، قيّدوني وكمموني لـ30 ساعة كاملة، ولكن من امتلك شجاعة الفرار من الروس، يمكنه أن يهرب من أي أسر آخر.. ففعلت..

لاحقا، وخلال تواجد وحدتي في مدينة "كليف" على الحدود الألمانية، أدركنا أننا بلا غطاء جوي، وسنتعرض للقصف في أي لحظة، فقررنا الاحتماء في مبنى مدرسة مهجورة.. كان ذلك قبل أن تُرسِل السماء علينا جحيمها..

3 أيام متتالية من القصف هو ما نالته تلك المدرسة، وأنا بدأت في توطين نفسي على فكرة تقبُل هذا البناء المتهاوي قبرًا لي.. لكنني نجوت مجددا مع عدد قليل جدا من جنود الوحدة الذين مات أغلبهم.

مع خروجي حيًا من تلك المدرسة بعد 3 أيام، كنت قد أسقطت القسم الذي تلوته عند انضمامي للجيش، لم أعد منتميا لأي شيء، ولم يصر أمر الحرب يعنيني، سببت المحور ولعنت الحلفاء، وأردت العودة لأحضان أمي ولا شيء أكثر..

قررت القيام بمغامرة أخيرة، وجعلت بريمن وجهتي، توجب علي الحرص على عدم الوقوع في الأسر الألماني.. نعم، سيتم اعتباري متهربا وسأعدم رميا بالرصاص في الحال.

ولعلني بالغت قليلا في تجنب أبناء جلدتي، لأن الألمان ليسوا من اعتقلوني في نهاية المطاف..

كنت مختبئا في حظيرة عندما وجدت جنديين أمريكيين يصوبان أسلحتهما نحوي، قاما باستجوابي، ومن ثم لم يكن سرا عليهما أنني لست ذا منفعة، فعدم انتمائي إلى أي وحدة بذلك الوقت تركني لا أملك أي معلومة يمكن أن أفيدهما بها..

قاما بتوجيهي للخروج من الحظيرة، ولا أدري لماذا تملكني هذا الشعور، ولكني أخبركم أنهما كانا على وشك إعدامي. لم يكونا ليتكلفا عناء اصطحابي لمعسكرهم، ومحال أن يتركا هذا "النازي الحقير" في حال سبيله، ظللت أسمع صدى إهانتهما يتضاءل على أذني، لأنني قررت مباغتتهم والهرب من موتٍ اعتبرته محققا.. وفعلت! للمرة الثالثة!

وبينما ما زلت مشغولا بتضليل الجنديين الأمريكيين خشية أن يتتبعاني، وجدت سياجا، تسلقته في رعونة لعله ينقلني إلى الجانب الآمن، ولكن في الجهة الأخرى من السياج كان هنالك شيئا ممدا وقعت عليه: ساق جندي بريطاني!

نظر لي الجندي، أو بالأحرى نظر إلي الجنود الذين كانوا ينعمون بقسطٍ من الراحة، ساد الصمت للحظة قبل أن يبادرني أحدهم:

- مرحبا فريتس، أترغب في كوبٍ من الشاي؟

لم أحاول الهرب مجددا.. لا بأس ببعض من الشاي بعد هذا القدر من الدماء.. انتهت حربي.

سُجنت في بلجيكا بالبداية، قبل أن أُنقَل إلى معسكر بمدينة إسيكس البريطانية، حيث تم استجوابي.

قام الإنجليز بتصنيف الأسرى الألمان في سجونهم، وضعوا 3 درجات لونية تعبّر عن انتماء كل أسير للأفكار النازية: الأبيض لمناهضي النازية، الرمادي لغير المتأكدين والذين لم يحسموا أمرهم، الأسود للنازيين.

ومع حقيقة التحاقي بمنظمة شباب هتلر منذ العام الأول لتأسيسها، وتطوعي للاتحاق بالجيش في سن صغيرة دون انتظار الاستدعاء، بجانب بعض الأفكار التي لم أخش الإفصاح عنها؛ تم تصنيفي في الفئة السوداء، و10% فقط من الأسرى وقعوا في تلك الفئة!

تم نقلي "لتشيشير" في شمال غرب إنكلترا، قبل أن يستقر بي الحال في "هايتاون" بالقرب من ليفربول.

ومع انتهاء الحرب، قرر "كليمنت أتلي" رئيس الوزراء البريطاني، أن الأسرى الألمان سيبقون لإعادة إعمار ما هدموه في المدن البريطانية.

ولأنني صُنفت في الفئة السوداء، فوجب التعامل معي بطريقة خاصة لتصفية الأفكار النازية من ذهني.. لقد قاموا بتعذيبي.. عن طريق تعييني سائقا لضابطٍ يهودي..

هذا الضابط كان أستاذا جامعيا في الأساس، ولا أخفي عليكم أنني حملت في نفسي عقدة عدم استكمالي لتعليمي، فكرهته بشكلٍ مضاعف فوق الكره الاعتيادي الذي أكنه لليهود.

حاولت تجنب الحديث معه، لكنه ظل يستنفرني يوما وراء الآخر، حتى دفعني للدخول في نقاش حاد معه، انتهى منه على نعتي بـ "الخنزير النازي"؛ فأوقفت السيارة، ترجّلت، ذهبت إليه في المقعد الخلفي، لكمته، وتركته صريعا على جانب الطريق، وقفلت عائدا للمعسكر.

ظننت أنهم سيقطعون أوصالي على هذه الفعلة، لكني نلت عقوبة الحبس الانفرادي لـ14 يوما فحسب!

ومجددا، عينوني سائقا لضابطٍ يهودي آخر، الرقيب هيرمان بلوتش، كان بلوتش مختلفا، عندما كان يبالغ في استفزاز صمتي ودفعي للحديث، كنت أجيبه بحدة، إلا أنه لم يعاقبني يوما على حدتي.

- إذًا كنت مظليًا في اللوفتفافه يا بيرت؟

- يمكنك أن تناديني برند وليس بيرت.

- أنا إنجليزي يا عزيزي، برند ثقيل للغاية على ألسنتنا، ألاحظت كيف خرج من فمي بشكلٍ لم تعتد عليه؟

بيرت تراوتمان إذًا صار اسمي الجديد كما أقر اللسان البريطاني.. والرقيب بلوتش هذا، كان أول يهودي أشعر بأنه إنسان من لحم ودم..

تحسّنت لغتي الإنجليزية شيئا فشيئا، واعتاد السكان المحليون رؤيتنا، فبريطانيا امتلكت أكثر من 400 ألف سجين حرب ألماني، كان مشهدا معتادا للمواطن الإنجليزي أن يرى مجموعة من الأسرى الألمان يعملون على إزالة القنابل ببعض البقاع، أو في إعادة بناء ما هدموه بطائراتهم.

أجبرونا على مشاهدة مقاطع فيديو وصور التقطت من معسكرات الاعتقال النازية، حتى الجرذان الجالبة للطاعون لا تستحق أن تُنكَل بتلك الطريقة.. تجاوبي مع تلك الصور كان واضحا، وبالتالي أعادوا تصنيفي لأصير في فئة اللون الرمادي.

أما أفضل ما حدث حقا بتلك الفترة، هو تكوين فريق كرة قدم للأسرى، لعبنا مباريات داخلية لبعض الوقت. لكن لم يدم هذا طويلا، فالسكان اشتعلوا فضولا لرؤيتنا نواجه فرقهم المحلية، وهذا ما تم..

في طفولتي، حصدت المركز الثاني بمسابقة للألعاب القوى جمعت صفوة الرياضيين الشبان على مستوى ألمانيا، ظننت أن هذا منتهى ما يمكن أن تُدخلِه الرياضة على نفسي من سعادة، كان ذلك قبل أن تمر السنوات وألعب كرة القدم في معسكرات الإنكليز.

في البداية، لعبت كمدافع، قبل أن تلحقني إصابة في إحدى المباريات، فكان الحل أن أتبادل الأدوار مؤقتا مع حارسنا الذي تنازل لي عن خشباته.. ما كان مؤقتا بات أزليا عندما أظهرت براعة فاقت حارسنا الأساسي.. في الواقع، كان الأمر أشبه بمزحة لجندي مظلات سابق اعتاد القفز والهبوط على أراضٍ أكثر صلابة بمختلف الأوضاع، ناهيك عن ممارستي لكرة اليد في صغري؛ مما جعل التقاطي للكرات بيدي مألوفا.. إن لم أكن مؤهلا لشغل مركز حراسة المرمى، فلا أحد يقدر على شغله.

مرت الشهور، ورُفع عنا حظر الحديث مع السكان المحليين، فبدأنا في الاختلاط، وصدقوني كنت وسيما للغاية، ولذلك لم أعان في إيجاد فتاة أتسكع معها، اسمها ماريون، كانت لطيفة، جذبني إليها أنها لم تمتلك تلك النظرة، نظرة "هذا الفتى اعتاد أن يكون نازيًا".

الواقع أنني كنت ما أزال بتولًا، متى سنحت لي الفرصة لفقدان عذريتي بحق الجحيم؟ لقد التحقت بالجيش فور أن نما شاربي..

هذا الحال لم يدم عند التقائي بماريون، فقدنا عذريتنا في اللحظة عينها، لكننا ما أقمنا حسابا للعواقب.. لقد حبلَت!

عاد الرعب ليتملكني، لم أعرف ماذا علي أن أفعل، لم أكن متأكدا من أي شيء، لست داريا بالمدة التي سأقضيها في تلك البلاد حتى، وسحقًا.. لست مستعدا لتكوين أسرة بكل تأكيد، كيف لي أن أعيل فردين إضافيين؟

كنت قد حصلت على الضوء الأخضر للترحيل صوب وطني، لكنني رهبت وطني دون أن أقابله، فخيّرت البقاء لإزالة بقايا القنابل والعمل في المزارع.

لم يكن ملائمًا أن تحبل فتاة دون زواج بتلك الفترة، فما كان إلا أن أجبرني والداها على الزواج منها.. لكنني حسمت أمري قبل أسبوع من الزفاف، وأخبرتها أنني لا أستطيع..

هجرت فتاة أمنتني على جسدها، تحمل في رحمها لحمًا من صلبي!

24 ألف ألماني خيروا البقاء في مجتمع فتح لهم ذراعيه بدرجة مقبولة.. لعلي كنت من بين أكثرهم حظًا عندما تلقيت عرضا للالتحاق بفريق سانت هيلينز تاون في أغسطس 1948. فريق صغير غير محترف يقوم على ميزانية بسيطة، لم لا؟

"جاك فراير" سكرتير النادي، هو من اخترق كافة الجدران ليضمن التوقيع معي، هذا الرجل من جعلني متأكدا من المهنة التي أريد التشبث بها في قادم السنوات: لعب كرة القدم.

كانت أسعد سنة في عمري بالرغم من مبلغ الـ1 جنيه استرليني فقط الذي كنت أتقاضاه أسبوعيا. تضاعفت أعداد الجماهير في مباريات سانت هيلينز تاون خصيصا لمشاهدتي.

450 مشجع كان متوسط عدد الحضور قبل قدومي للنادي.. ارتفع هذا المتوسط ليصير 6000 مشجع في المباراة الواحدة، بل وصل الحضور إلى 9000 في نهائي كأس ماهون المحلية.

خضت 46 مباراة في ذاك الموسم، وقسّمت وقتي بين العمل في المزارع ولعب كرة القدم، وفوق ذلك، أدركت مذاق الحب بين أحضان مارجريت.. "مارجريت جاك فراير".

مع انتهاء الموسم، قررت زيارة بريمن، لم أكن قد التقيت بأسرتي لسنوات. تجهزت للسفر، وإذا بمجموعة سكان محليين من مشجعي سانت هيلينز يحضرون إلي بصندوق ضخم يحتوي على صفائح من اللبن المجفف، خوخ، كعك منزلي الصنع، جُبن، زُبد، لحم مقدد. ومن ثم سلموني مظروفا ورقيا مغلقا:

هكذا أخبروني قبل أن يودعوني بحرارة.. تملكني الفضول بشدة لمعرفة محتوى المظروف.. انتظرت رحيلهم.. فتحته.. بكيت..

احتوى المظروف على 50 ورقة من فئة 1 جنيه استرليني!

عند عودتي من ألمانيا، اكتشفت أن الصراع وصل لذروته بين أندية القسم الأول للتعاقد معي!

كانت نقلة كبيرة في مسيرتي، صحيح أن موهبتي لا تخطئها العين، لكني كنت أسيرا مجهول المستقبل قبل عدة أشهر.

في النهاية، مانشستر سيتي من ظفروا بتوقيعي في أكتوبر 1949.. وفُتحَت عليهم أبواب الجحيم..

اشتعلت مدينة مانشستر بغضب شعبي عارم للتوقيع مع جندي سابق في الجيش النازي، أكثر من 20 ألفًا من مشجعي مانشستر سيتي احتشدوا في مظاهرة أمام ملعب "ماين رود" الخاص بالفريق، حاملين لافتات مزخرفة بالصليب المعقوف، الكثير من ملاك التذاكر الموسمية هددوا بالمقاطعة، تعالت أصوات الجماعات اليهودية في المدينة، أصبح الناس وأمسوا يلعنون هذا النازي الذي جاء ليعكر صفو لعبتهم الجميلة.

تلقى النادي سيلا جارفا من خطابات التنديد والكراهية، وامتلأت الصحف المحلية بمراسلات الجماهير الغاضبة:

600 لاعب كرة قدم محترفا في إنجلترا، كانوا قد انضموا للجيش البريطاني خلال الحرب، منهم 80 فقدوا حياتهم، وآخرين تعرضوا لإصابات أنهت مسيرتهم. لم يكن سهلا على الجماهير أن تجد لاعبا ألمانيا يقف على العشب الأخضر ذاته الذي ركل عليه هؤلاء الضحايا الكثير من الكرات في السابق.

معضلة أخرى كانت متعلقة بانضمامي لمانشستر سيتي، معضلة كروية: "فرانك سويفت".

كان فرانك سويفت -حتى لحظتها-، هو أعظم حارس مرمى في تاريخ مانشستر سيتي، قرر اعتزال كرة القدم بعد مسيرة أسطورية دامت لعديد السنوات، وتوجب علي أن أعوضه. وليس من السهل على مشجع عاشق أن يستبدل النظر لفرانكي، بالنظر لجندي في الجيش الذي اجتاح أوروبا ودمرها.

بيد أن الدعم بدأ في الظهور بعد موجات الهجوم العاتية التي نالتني، وكان أكثر مظاهر الدعم تأثيرا صادرا من دكتور "أليكساندر ألتمان"، الحاخام الطائفي للمدينة، خاطَب ألتمان رعيته من اليهود قائلا:

وعندما حان وقت دخولي إلى غرفة خلع ملابس الفريق لأول مرة، كنت مشوشا، أيحدث أن يحمل زملائي اللاعبين نحوي مشاعر متشاركة مع جمهورهم؟

دخلت متثاقل الخطى إلى الغرفة رفقة أحد الإداريين بالنادي، وما أن رآني اللاعبين، حتى تملكهم الصمت، كانت لحظة طويلة من الصمت، أطول من لحظة وقوعي في الأسر، ولكن أحدهم كسر هذا الجمود وتقدم نحوي، صافحني، وقال:

- لا حرب في هذه الغرفة، نحن نرحب بك كأي فرد آخر في الفريق، اعتبر نفسك في منزلك، وحظا موفقا..

وعلى الفور تقدم بقية أفراد الفريق لمصافحتي.. عرفت لاحقا أن هذا الشخص هو إريك إيستوود، قائد الفريق، حارب مع جيش الحلفاء في نورماندي!

المباراة الأولى كانت على أرض بولتون في 19 نوفمبر، دخل فرانك سويفت إلى غرفة خلع الملابس، وفوجئت به يتقدم نحوي، ربت على ظهري وقال:

- لا تعبأ بشأن هؤلاء الناس في الخارج، ركّز فقط على مباراتك. لا تستمع إلى أي كان ما سيهتفون به

بيد أنها كانت نصيحة صعبة التنفيذ مع القدر الشديد من الكراهية الذي تلقيته، شعرت بتوترٍ كبير، وتسببت بشكل مباشر في استقبال الهدف الأول، مما مزَج بين الصيحات العدائية والساخرة. خسرنا 0-3، وظهرت بشكل مُزرٍ..

لعبتُ على ملعب ماين رود الخاص بمانشستر سيتي لأول مرة في مواجهة برمنجهام سيتي.. وليس غريبا أن ذِكْر كلمة برمنجهام أمامي الآن يجعلني أتحسس رقبتي بشكل تلقائي.

بالعودة لمباراة برمنجهام الأولى تلك، وعلى غير المتوقع، امتلأ الملعب تقريبا بالرغم من وجود بعض الحشود الغاضبة خارج أرضية الملعب، انتصرنا 4-0، وقام الفوز بدوره في شغل الجماهير عني بعض الشيء.

إلا أن مبارياتنا الخارجية في تلك الفترة كانت صعبة جدا على شخصي، تعرضت لمضايقات لا تُحتمَل، حتى أن شباكي تلقت 7 أهداف كاملة في مباراة أمام ديربي كاونتي بشهر ديسمبر!

في يناير 1950، ارتحلت رفقة الفريق إلى العاصمة لندن لأول مرة، كنا على موعد مع مباراة أمام فولام.

وأثناء وصولنا إلى لندن بالحافلة، تأملت الطرقات والمباني المدمرة، انتهت الحرب منذ 5 سنوات وما تزال تاركة أثرها.

المباراة تلقت اهتماما إعلاميا وجماهيريا ضخما، لأن عدوهم قادم لزيارتهم: أنا.

كنت أدركت مع الوقت أن مشكلتي الحقيقية ليست في كوني نازيا أو ألمانيًا أو جنديا حتى، بل في كوني عضوا سابقا في اللوفتفافه. والإنجليز يكرهون اللوفتفافه، لأنه السلاح الوحيد في الجيش الألماني الذي تمكّن من الوصول للجزيرة البريطانية، كل هذه الأضرار والفجوات على جوانب الطريق من صنع طائرات اللوفتفافه.. من صنعنا.

كان فريقنا يعاني كرويا في تلك الفترة، وتوقع الجميع خسارتنا بنتيجة فادحة، وما أن دلفت لأرض الملعب، حتى وجدت لهبًا يفوح في وجهي، الهتاف "نازي" كان يرج الأرجاء، ولكني سئمت من الوقوع تحت وطأة تلك المشاعر العدائية في كل زيارة خارجية، وقررت أن أريهم بعضا من لياقة جندي المظلات السابق.

خسرنا بهدف نظيف، لكنني قمت بعدة تصديات ما رأوها من قبل في تلك البلاد، وما أن انتهت المباراة، حتى دوى صدى التصفيقات المملوءة بالدهشة، صفقَت لي الجماهير اللندنية، واصطف لاعبو الفريقين لتحيتي أثناء مغادرتي إلى غرفة خلع الملابس..

النتيجة النهائية التي توصلت إليها في تلك الليلة، أن الشعب الإنجليزي يعشق كرة القدم أكثر من دمه.

قبل تحولي كحارس مرمى في معسكر الاعتقال، لم أكن قد تدربت أبدا على اللعب في هذا المركز، لم أتلق أي تعليمات من أي شخص، كل قفزاتي الأكروباتية كانت فطرية، ولهذا أقدمت على أساليب جديدة في التصدي لم تكن سائدة لأنها خارج أعراف التدريب، منها مثلا الانقضاض على الكرة واقتلاعها من بين أقدام المهاجمين، الكثيرون اعتبروني مقامرا وأنا أخاطر بوضع جسدي أسفل قدم المهاجم، بالأخص أن القانون لم يوفر الحماية الكافية للحراس بتلك الفترة.

بحلول العام 1952، كنت قد صرت أحد أفضل حراس المرمى في العالم بلا مبالغة، إلا إني لم أنجح في الانضمام للمنتخب الألماني؛ سياستهم بتلك الفترة كانت قائمة على استدعاء اللاعبين المحليين فقط، مما أخرجني تماما من الصورة رغم وصول سمعتي لبلادي.

حينها تلقيت عرضًا للانضمام إلى شالكة، أخبرتهم أن عليهم محادثة إدارة السيتي، وبالفعل قدموا عرضا يبلغ 1000 جنيه استرليني. ورد السيتي كان قاسيًا، قالوا أنهم يرغبون في عرض يبلغ 20000 جنيه استرليني حتى يبدأوا التفكير في الأمر. تمسكهم بي أعطاني ثقة إضافية في نفسي. إلا أنني خسرت فرصة التتويج بمونديال 1954 الذي ربحته ألمانيا الغربية، كل ما استطعت فعله هو مرافقة المنتخب والقيام بدور المترجم!

أعيش في هناء مع زوجتي مارجريت، أنجبنا الصغير جون، وصرت أحد أكثر لاعبي فريقي تأثيرا بعد أن قام المدرب ليز مكدوال بثورته التكتيكية..

ما حدث أن العام 1953 حمل صدمة للإنجليز، خسروا في ويمبلي (3-6) أمام المجر، تلك المباراة واحدة من أقوى اللطمات في تاريخهم، لقد امتلكوا هذا الغرور الزائف أنهم سادة كرة القدم لمجرد أنهم مخترعوها، لكن بوشكاش وهيديكوتي ورفاقهما حضروا إلى لندن في نزهة.

لعبوا كرة قدم غريبة لم يعتدها الإنجليز، استحوذوا كثيرا على الكرة ومرورها فيما بينهم، حتى أن حارسهم جيولا جروسيكس لم يكن يركل الكرة إلى أبعد بقاع الملعب مثلما يفعل الحراس في إنجلترا، بل كان يبدأ الهجمة بيده إلى أقرب زملائه، المشهد كان ثوريا على أعيننا.

ومن هنا قرر مدربنا مكدوال الاتجاه لـ "خطة ريفي" كما أطلقت عليها الصحافة، لأنها تمحورت حول مهاجمنا "دون ريفي"، الذي لم يكتف بالانتظار في منطقة الجزاء، بل هبط كثيرا لوسط الملعب وشارك في بناء الهجمة وخلق الفراغات في دفاعات الخصوم.

أما دوري فكان ضمان أن تبدأ الهجمة بشكلٍ منسق، فكنت أرمي الكرات بإتقان صوب واحد من الجناحين: "كين بارنز" و"جون ماكتافيش". استرجعت مهارات التمرير في كرة اليد لأتمكن من القيام بهذا الدور، وفعلته بالصورة المثلى. بارنز وماكتافيش كانا يمرران الكرة لريفي المتراجع، وهنا يبدأ العمل الهجومي الجاد.

أصبح السيتي فريقا ذا شخصية فذة في الكرة الإنجليزية، بل تمكنا من الوصول لنهائي كأس الاتحاد الإنكليزي عام 1955، كان الأمر أشبه بالحلم.

صبيحة يوم النهائي أمام نيوكاسل يونايتد، داعبني أحد زملائي بحقيقة أن ملعب ويمبلي تم افتتاحه عام 1923، بنفس السنة التي ولدت فيها. اعتبرت الأمر مدعاة للتفاؤل، خصوصا أن والداي حضرا من ألمانيا خصيصا لمشاهدة أول ألماني يخوض نهائي مسابقة كرة القدم الأعرق في التاريخ.

بيد أن الوضع تحوّل ليكون كارثيا.. وجدنا أنفسنا متأخرين في النتيجة بعد 45 ثانية فقط، وفي الدقيقة 18، تعرّض لاعبنا جيمي ميدوز للإصابة؛ واضطررنا لخوض الجزء المتبقي من المباراة منقوصي العدد، فلم يكن نظام الاستبدالات قد أُقر حينها.. عندما يصاب أحد لاعبيك، عليك أن تدفع الثمن، والثمن كان الكأس الغالية التي حلمنا بها.. خسرنا 1-3.

في غرفة خلع الملابس بعد المباراة، وبينما أمسَك أغلب اللاعبين رؤوسهم حسرةً على ما فات، أخبرتهم: سنعود..

الموسم التالي، 1955\1956، كان خياليا للفريق، جماهيرنا كانت تتلهف مبارياتنا لمشاهدتنا نقدم عروضنا الأفضل منذ سنوات طوال. احتللنا المركز الرابع في الدوري، وأنا تحولت لأكون نجم الفريق الأول.

وصلنا إلى نصف نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي حينها، واجهنا توتنام، وكنا متقدمين بهدف نظيف ويفصلنا ثوانٍ عن الذهاب إلى ويمبلي للعام الثاني على التوالي، قبل أن أرتكب خطأ كاد يكون قاتلًا..

خرجت لإمساك كرة عالية ببعضٍ من الاستهتار، فوقعت من يدي، وهبطت أمام أحد لاعبي توتنام، قام بمراوغتي وصار على بُعد تسديدة من إدراك التعادل واغتيال حلمنا، فإذا بذراعي تهب وتلتف حول ساقه، مانعةً إياه من التسديد..

كانت ركلة جزاء جلية، لم يرها الحكم، ولم يحتسبها بالتأكيد، وصعدنا للمباراة النهائية.. لحسن حظي!

بعد المباراة، تلقيت تهديدا بالقتل.. أحد مشجعي توتنام أرسل لي خطابا يخبرني فيه أنه سيجلس خلف مرماي في ويمبلي، وسيحمل سلاحا..

قبل المباراة النهائية بـ3 أيام، أعلنت رابطة النقاد الرياضيين عن اختيارها لأفضل لاعب في الموسم: بيرت تراوتمان!

صرت أول حارس مرمى ينال هذا الشرف، بل وأول لاعب غير إنجليزي..

في 5 مايو 1956، هبطتُ إلى عُشب ويمبلي مجددا، وهذه المرة حملت في نفسي همًا مضاعفًا، أيحدث بالفعل أن يجلس ذاك المشجع المجنون خلفي ويحرر إليّ عياره الناري؟

لم أكد أسمع شيئا من الدعوات بحفظ الملكة التي رددها كل من في الملعب أثناء عزف السلام الملكي، كنت مشتتًا بفكرة عدم خروجي حيا من مباراة في كرة القدم بعد أن نجوت في عشرات المعارك، كم شظية عبرت مباشرة فوق جبهتي في أراضٍ كُدسَت بالجثث؟ وينتهي بي المطاف للموت على يد مُشجع كرة قدم؟

الخبر بالكامل
رأيك يهمنا