برعاية

حكايات بين الـ3 خشبات : في رثاء حبيبتيَّ

حكايات بين الـ3 خشبات : في رثاء حبيبتيَّ

لكل منا حكاية مع كرة القدم سواء كنت مشجع لاعب مدرب أي فرد بمنظومة كرة القدم أو خارجها، هذه الحكاية تكون بها تقلبات الحياة بكافة أشكالها دراما ودموع الحزن والفرح لحظات الانكسار التي يتولد منها النصر ورفع البطولات وأوقات الحزن في الخسارة واستلام الفضة " الرخيصة " في كتب التاريخ، لذلك في " حكايات بين الـ3 خشبات " نتناول حكايات كرة القدم مع نجوم صنعت كرة القدم علامة فارقة في حياتهم فصنعوا علامة فارقة في التاريخ وفي نفوس مشجعي كرة القدم.

بعد مرور ساعات الليل المليئة بالألم دون خليل يُقلل من الشعور بالوحدة خلالها، ظهر فجر يوماً جديداً في منزل العجوز (نولا ماكسيم)، صعدت فيه الشمس إلى مقرها الدائم في كُل صباح، وأرسلت أشعتها اليومية في نفس الموعد وفي ذات المكان على وجه (ماكسيم) لتُخبره بانتهاء وقت النوم وأنه موعد الإستيقاظ.

وبالفعل فُتحت عينان ذلك العجوز المُجعدتان من فعل السنين التي مرت عليه وبدأ في اكتشاف تفاصيل يومٍ جديدٍ يَمُر عليه في ذلك المنزل الكبير الواسع الذي لا يؤنسه فيه سوى تلك المكتبة الكبيرة المليئة برواياتٍ وكُتبٍ، حفظ مُعظمها عن ظهر قلبٍ لكنه لا يجد رتابة في إعادة قراءتها.

(ماكسيم) شَخصٌ مُرتبطٌ بعائلته بشكلٍ كبيرٍ جداً، دائماً ما يُكرر العادات والتقاليد التي أعتاد عليها في منزله القديم حينما كان طفلاً، ولم يتوانى في فعل أي شيء سبق وأن رأى أحد أجداده يقومُ به، ومن ضمن تلك العادات، هي عادة جدته الكُبرى (باولين).

حيث كانت مُعتادة في كُل صباح أن تُحدد الحالة العامة لأحداث ذلك اليوم عن طريق لمس أشعة الشمس بوجهها، الجميع في العائلة كان يتعجب من فعلتها تلك، حتى (نولا) ذاته، لكنها دائماً ما كانت تُسكتهم بوصفها الدقيق لليوم، فيوماً تصفه بأنه مليئاً بالسعادة، ويكون كذلك وأخر تصفه بالمُريب ويحدث ما تتوقعه –هي- في الغالب.

(نولا) بعد أن تقدم في العُمر قليلاً بدأ في تلك العادة ومع مرور الوقت بدأ يتوصل لجزءٍ من دهاء جدته الراحلة، لكنه كان يُخطئ في الكثير من الأحيان ولم يمنعه ذلك الخطأ من تكرار ذلك الفعل، وفي صباح ذلك اليوم قام بإخراج وجهه من الشباك المواجه للشمس مُباشرة، وشعر بحنين كبير يأتي من تلك الأشعة، وهو شيءٌ عجيبٌ قليلاً، حيث أنه إن أقر ذلك الإحساس على وصفه لليوم فسيصفه بيومٍ رومانسي الأحداث، فكيف تكون هُناك أحداث غرامية في ظل تلك الوحدة التي يُعاني منها.

سُرعان ما أهمل ذلك الإحساس العجيب الذي أحتل مشاعره، وبدأ في تطبيق عاداته اليومية، فقام بتحضير الإفطار الثابت الذي يتناوله في كُل صباح منذ ما يزيد عن الأربعين عاماً، وتوجه لِغُرفته التي أعتاد قراءة كُتبه بها.

تلك الغُرفة كانت لا تحتوي على الكثير من التفاصيل، فقط كُرسيّ هزاز يتكأ عليه أثناء القراءة، والقليل من الإضاءة التي لا تُزعج عينيه ولكنها تُعطيه الضوء اللازم للرؤية، والعديد من الرُسومات التي سبق وأن رسمتها زوجته فيما قبل ذلك.

إبان قراءته لرواية (مئة عام من العُزلة) للمرة السادسة -تقريباً-، لم يستطع منع نفسه من التفكير في ذلك الإحساس الذي إنتابه في الصباح، الشعور بالحب والاشتياق شيء يصعب على الجميع تجنبه، فَهَمَ إلى مكتبه ليكتب خطاباً جديداً لزوجته التي رحلت عن الدُنيا مُنذُ خمس عشر عاماً.

(نولا) أعتاد أن يُخاطب زوجته الراحلة كُلما شده الحنين إليها، يكتب ما يُريد في خطابٍ دون أن يُنهيه بعنوان، ويذهب ليضع بجانب مقبرتها.

 لم ينساها قط لكنه لم يكن يرغب في إرسال خطاب يومي لها حتى لا تنزعج من كثرة تلك الخطابات، وخصوصاً أنها لم تكن تهوا القراءة، لكن لا مانع من خطاب أسبوعي ليُعبر لها عن حُبه لها الذي لم يقل أبداً، وليُخبرها بأخر أخباره وأحداثه اليومية.

واقعياً، (ماكسيم) كان لا يُخبر (فيكتوريا) بالحقيقة كاملة، كان يُرسل لها فقط ما يُسعدها، لم يكتب في أي مرة أي شيئاً من شأنه أن يُقلقها عليه، فقلد أخفى عنها لسنوات أنه قد توقف عن مُتابعة فريقهم المحبب "سانت إيتيان"، فكيف يُخبرها بذلك دون أن يقول لها أن الفريق أصبح ليس كما تركته هي.

وليس فيما يختص بكُرة القدم فقط! فحتى في أكثر فتراته إحتياجاً للأموال كان يُخبرها بأنه قد أبتاع العديد من القمصان الخاصة بالمُنتخب الفرنسي، حتى نفذت أمواله كُلها لكنه حصل على غيرها كمكافأة من المتجر الذي أشترى منه، لم يرى أن ذلك كذب او تضليل لكنه كان لا يرغب في أن يراها حزينة أبداً، وهو يعلم أن أي خبر سيء عن "سانت إيتيان" من شأنه أن يُغير مزاجها بالكامل.

لكن لسببٍ غير معلوم، أراد أن يُحدثها في خطابه ذاك عن حُزنه الشديد الذي يشعُر به منذ فترات كبيرة، وبالفعل أمسك بقلمه وأسقط ناظريه في الورق الخالي من أمامه، وبدأ بالدباجة المُعتادة.

كم اشتقت إليكي محبوبتي، كم اشتقت إلى رؤيتك حقاً، بعيداً عن الصور المُملة التي لا تُعطي أي إحساس باللقاء، لكن ما يُهون عليّ قليلاً أنني على يقين من أنك الآن في النعيم والراحة بعيداً عن ما بالدُنيا من مُشكلات.

مُنذ رحيلك وكُنت لا أتصبر إلا بمحبوبتي الأخرى، كانت تُهون عليه أوقات كثيرة في ظل غيابك، أيام الأسبوع كانت تُقسم بين مُبارياتها، فلا أشعر بمروره إلا حين ينتهي، كنت أعاني فقط في أسابيع الفيفا المُملة والتي قررت مُقاطعتها منذ أن أعتزل (زيدان وهنري) كُرة القدم، فلم يَعُد للديوك الفرنسية أي رونق منذ رحيل ذلك الجيل الذهبي لفرنسا.

لكن تباعاً بدأت أمل مُتابعتي لكُرة القدم بالكامل، في سابقة جعلتني أشكُ في قواي العقلية، فأصبحت –فجأة- لا أهتم لمواعيد كُل اللقاءات، وحين تُصادف وتقع عيني على إحدى المُباريات بِت أشاهدها دون أدنى تفاعل مع أحداثها.

في البداية شككت فيّ وفي وعيّ وإدراكي، أو أن وفاتك جعلتني أتأثر بطعم كُل شيءٍ من حولي، حاولت تسبيب العديد من الأسباب، وان أقنع نفسي بأي شيء لا يَمس كُرة القدم، لكنّي مع الوقت بدأت من التيقن أن العيب فيها وليس فيّ.

هُناك شيءٌ ما أصبح مُختلفٌ فيها، المُتعة فيها أصبحت محض صُدفة، فكُل شهرٍ أو أثنين نتحصل على لقاء يمكننا وصفه بالجيد او الرائع، وإنتفت صفة المُمتاز والشيق من أوصافنا للمباريات، الكُل أصبح يؤدي تلك اللعبة كالموظف في إحدى الجهات الحكومية المُملة، مدة العمل ساعة ونصف من التحرك يميناً ويساراً دون روح او شغف، لكنه في النهاية يحصل على أجره كاملاً، نتيجة حُصوله على أحد المراكز التي تضمن لهم البقاء في الدوري.

اللاعبين الذين يحتوّن على الشغف بهذه اللعبة والروح التي جعلتنا نهيم بها عشقاً، أصبحوا بِندرة الماء في صحراء تُعاني من الجفاف منذ ما يزيد عن القرن، هؤلاء اللاعبين يعتزلون واحداً تلو الأخر وتزداد ندرتهم في كُل عام، وتزداد معها نسبة الملل في المستطيل الأخضر والتحرك الغير مُجدي ببدنيات كبيرة وإمكانيات معدومة.

في التسعينيات، كُنا نتصارع يومياً فيما بيننا حتى نختار الأفضل في العالم فذلك يقول أن (زيدان) هو الأفضل، وهذا يقول بأن (يوري دجوركاييف) لا مثيل له، فرنسا كانت تحتوي على العديد والعديد من النجوم التي كانت تجعل المنتخب يُعاني من كثرة اللاعبين، الآن نبحث عن واحد أو أثنين يُمكنهم قيادة الفريق.

الدوري أصبح بلا أي شعور بالاستمتاع، نعرفُ البطل قبل بدء البطولة، "البي إس جي" بات يُسيطر سيطرة شبه تامة على كُل البُطولات في البلاد، يملك ما لا يملكه سواه، والجميع يتصارعون على البقاء والابتعاد عن شبح الهبوط إلى الدرجة الثانية.

ذلك الشعور لا ينتابني فقط في اللقاءات المحلية، فالرتابة قد أصابت اللعبة أينما حلت وارتحلت.

حتى في الديربيات العالمية التي اعتدنا أن تشهد مُتعة غير مسبوقة، وكُنا ننتظرها أنا وأنتي معاً، ونظل طوال الليل نتحدث عن قوتها، وعن أحداثها المُشوقة، أصبحت دفاعية بحتة كُل من الطرفين يسعى للحصول على نقطة يتيمة حتى لا يضيع حقه في الحصول على البطولة في نهاية المطاف.

كُل شيءٍ أختلف في هذه اللعبة، ليس فقط اللاعبين ذوي الروح، لكن حتى تعريف اللاعب المهاري أصبح مُختلف، فكُل من تحرك بالكرة بضع أمتار سَميناه (بيليه الجديد)، لم يَعد هُناك (ريكيلمي) وضاع شبح (باتيستوتا) في السراب، وركلة (كارلوس) باتت من الأساطير الخُرافية.

الخبر بالكامل
رأيك يهمنا