برعاية

غوارديولا.. هوس التفاصيل من التمركز إلى تغيير المفاهيم

غوارديولا.. هوس التفاصيل من التمركز إلى تغيير المفاهيم

قبل يوم واحد من إحدى مباريات دوري أبطال أوروبا في أدوار خروج المغلوب، جمع بيب غوارديولا كل لاعبيه في غرفة تحليل الفيديو. كان يهدف إلى شرح بعض النقاط الخاصة بخطته 3-4-2-1، وبعد وصول الكل في الموعد، أخذهم المدرب من أيديهم وانطلقوا جميعا إلى الخارج، وأشار نحو ملعب التدريب رقم 1، حيث لاحظ الجميع وجود أربعة خطوط في منتصف الملعب، كتمديد للعلاقة بين المركز ومنطقة الجزاء، ثم قال لهم في هدوء، "الشيء الوحيد المهم في لعبنا هو ما يحدث في هذه الخطوط، لا أكثر ولا أقل من ذلك"، ثم أمرهم بالعودة إلى الغرفة من جديد.

هاجم الكثيرون في ألمانيا أسلوب غوارديولا ومستمرون حتى هذه اللحظة، وفي أول موسم له مع البافاري حينما اشتدت الحرب الإعلامية ضده، وضع الفيلسوف كامل تركيزه على تطوير أسلوب لعبه، وحماية تكتيكه قدر المستطاع من القصور، لذلك ركز كثيرا على التفاصيل الصغيرة، ووضع نصب عينيه أمرا واحدا، تدمير مسمى التيكي تاكا، بجملة واحدة قالها لفريقه، "The U needs to go"، أي يجب أن تتحركوا ولا تمرروا فقط من أجل التمرير، وفق ما جاء في كتاب الصحافي المقرّب منه مارتي بيرارنو.

ريبيري إلى ألابا، ومن ألابا إلى بواتينغ، ثم تصل الكرة إلى رافينيا، ومنها إلى روبين، وهكذا على شكل حرف U، ما يجعل الأمر سهلا ويسيرا أمام دفاعات الخصم، لذلك يجب أن نكسر خطوطه، بالتركيز على محاولة احتلال الخطوط الأربعة أمام منطقة الجزاء، بدخول ثنائي الأظهرة إلى المنتصف على مقربة من لاعبي الوسط، وصناعة ما عُرف في ما بعد بالأظهرة الوهمية، وقام الثنائي ألابا ورافينيا بهذا الدور، مع تمركز موللر خلف المهاجم.

وبالتالي جاءت خطة 3-4-2-1 للحد من أسلوب التمرير المستمر الذي تكيّف معه معظم المنافسين، ولكي يصل الفريق إلى مستوى دقيق من التنفيذ، أعاد بيب أكثر من طريق خططية خلال التدريبات، مع استخدامه لعدة فيديوهات لشرح وجهة نظره، لدرجة أن ألابا همس لزميله، لماذا نفعل كل هذه الخطوات المعقدة من أجل لعبة ما في نهاية الأمر؟ ولم يعرف الإجابة إلا في إحدى المباريات التالية، عندما أحرز الفريق هدفا تم تسجيله مرتين خلال التدريبات بالعملية نفسها تقريبا، ليوقن وقتها أن مدربه قادر على إخراج صورة متكاملة بأدوات تبدو من الوهلة الأولى أنها غير متناسقة.

آمن بيب سريعا بفكرة البناء من الخلف، وسافر كثيرا مع صديقه الصدوق خوانما ليو إلى الأرجنتين، من أجل متابعة العراب الشهير لا فولبي، أحد أعظم المدربين في ما يخص التمرير الخلفي، حتى بدأ في تطبيق أفكاره منذ فترة وجوده في الفريق الرديف لبارسا، ووضع بوسكيتس في بعض المباريات كمهاجم وهمي، المركز الذي تألق من خلاله ميسي مع البيب في واحدة من أعظم فترات بارسا التاريخية.

جاء بوسكيتس إلى بيب وسأله، لماذا ألعب في هذا المركز؟ قال له كلمات موجزة، لا يهمني أن تسجل هدفا أو حتى تصنع أسيستا، ولكن ما أريده فعلا أن تتكيّف مع ضغط المدافعين، تعرف كيف تهرب من الرقابة بالتحرك، وأين تتمركز في المساحة المتاحة، أن تؤمن بالفراغ وقيمته في كرة القدم، وأخذ يشرح له عن أهمية التمركز في السنوات القليلة القادمة باللعبة، ليصبح أخطبوط باديا "بوسكيتس" أحد أفضل الارتكازات في عالم الكرة.

كل ما أراده بيب من بوسكيتس بوضعه في خانة الهجوم، أن يستفيد من هذه التجربة في مركزه الأصلي كلاعب ارتكاز أمام الدفاع، يحصل على الكرة من الخط الخلفي، يمرر إلى الأمام بذكاء، يتمركز بإيجابية في المنطقة الصحيحة، ثم يكسر خطوط المنافس بلعبة غير متوقعة، لتتحول هذه التفاصيل الدقيقة إلى عناوين عريضة يسير على خطاها سيرجيو ولاعبو الوسط في الفترة الحالية.

"بعد الخسارة أمام ريال مدريد في نهائي كأس الملك 2011، اجتمع بيب مع اللاعبين وقال لهم إنها غلطتي، يجب أن نغيّر من أسلوبنا في مباراتي نصف نهائي الأبطال، سنلعب في الخلف، ولن نتقدم أبدا للأمام، ثم أشار لألفيش بالبقاء كظهير وعدم الصعود كجناح، ما جعل مرتدات مدريد تبدو وكأنها لا شيء، لأن برشلونة يلعب برباعي صريح في الخلف وأمامه بوسكيتس"، يتحدث أبيدال عن مرونة غوارديولا وتغييره لخططه وفق مجريات المباراة.

وبالعودة إلى كلاسيكو ألمانيا بين دورتموند وبايرن، استخدم بيب لاعبه فيدال بدقة شديدة، لا يزال اللاتيني بعيد بعض الشيء عن أبجديات التمركز، لذلك عانى بايرن في مباريات سابقة من ثنائية ألونسو وأرتورو، لأن الثنائي يتحرك في تنافر ويغلق زوايا التمرير أمام بقية اللاعبين، لذلك عمل بيب مع فيدال على تحسين هذه الخاصية، بالاعتماد عليه في أكثر من مركز بالمباراة الواحدة، دفاع، وسط، وهجوم.

أمام دورتموند، لعب توخيل بتكتيك قريب من 5-2-3، بتواجد خماسي صريح في الخلف من أجل صنع الزيادة العددية أمام هجوم البافاري. ولمواجهة هذه الخطوة المركبة، انطلق فيدال كثيرا في قلب الهجوم، من الارتكاز إلى منطقة الجزاء، ليتحول إلى مهاجم إضافي مع موللر وليفا، وذلك لمحاولة فتح المساحة أمام انطلاقات كوستا وروبين على الأطراف، ليعمل بيب بمبدأ صريح، "إذا لم تستفد من تمركز لاعبك كارتكاز ممرر، عليك استخدامه كعامل مساعد بين الدفاع والهجوم".

اعترف المدرب السابق لفرق ريال سوسيداد الإسباني، ميوناريوس الكولومبي ودورادوس دي سينالوا المكسيكي، خوانما ليو، قائلا، "تربطني ببيب عاطفة قوية. عندما أنظر إلى ما وصل إليه أشعر بفخر كبير"، مضيفاً "لقد أشرف على تدريب لاعبين كبار في برشلونة وبايرن، ولكن البنية وتنظيم اللعب اللذان يعتمدهما يُضاعفان قدراتهم وفرص التناغم بينهم. لقد تمكن من جعل اللاعبين الجيدين يلعبون بشكل أفضل".

ثم يتحدث الصديق المنسي عن فكرة التعلم في كرة القدم، ويضيف: "نضع اهتماما مضاعفا بكلمة المعلِّم ولا نعير أي اهتمام للشخص الذي يريد التعلّم"، موضحاً في الوقت ذاته أن "لا وجود لشيء اسمه التعليم" في كرة القدم، معتبراً أن دور المدرب "لا يتجاوز حدود التوضيح". ثم أضاف في مقابلة مع موقع الاتحاد الدولي، "إن ما يوجد فعلاً هو التعلم، أي ما يتعلمه اللاعب بمحض إرادته. إذا كان هناك مدربون يعتبرون أنفسهم معلمين، فلماذا لا يقومون بتعليم جميع لاعبيهم على قدم المساواة؟ لماذا نجد في الأخير أن لبعض اللاعبين معرفة أكثر من الآخرين؟".

وكأنه يشرح لنا السر وراء المحادثة الشهيرة بين بيب غوارديولا وكيميتش بعد مباراة بايرن ودورتموند، عندما وقف بيب في منتصف الملعب، وأمسك بمدافعه الصغير معطيا إياه كلمات فنية وتكتيكية، قبل أن يحتضنه وينتهي الأمر داخل المستطيل الأخضر، لكنه ظل مستمرا على مستوى النقاش والانتشار عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات الرياضية حتى اليوم، لأن بيب خلال هذه اللحظة أراد مجرد "توضيح" بعض الملاحظات إلى لاعبه، وليس تعليمه شيئا جديدا كما اعتقد البعض، واختياره كيميتش بالأخص له دليلان، تقبّل اللاعب لذلك، وأسطورة التمركز التي تسيطر على تفكير الرجل الكتالوني!

الخبر بالكامل
رأيك يهمنا