برعاية

غنزيبي.. بصمة اقتدار في فنون "ديبابا" على المضمار

غنزيبي.. بصمة اقتدار في فنون "ديبابا" على المضمار

منذ زمن بعيد وإلى يومنا هذا، كان البشر ولا يزالون، يعتقدون بتأثير الجينات ووجود رابط وثيق بينها يجعل بعض السمات أو الأوصاف أو المظاهر تظهر في وضع التكرار مع كل جيل، ولعل في هذا الصدد تندرج موهبة غنزيبي ديبابا التي ورثت فن العدو للمسافات الطويلة عن أختيها وعدد من أقاربها، الذين عجّت المضامير بإنجازاتهم.

"لا ندرك حقيقتنا إلاّ بما نستطيع فعله من أعمال".. في ربيعها الثالث والعشرين، حتماً.. بالإمكان أن نصنّف غنزيبي ديبابا في خانة القلائل الذين توصلوا لاستيعاب حكمة المفكر والكاتب الفرنسي الشهير فيكتور هوغو، فرغم اكتنازها للموهبة وتوفر العوامل المساعدة على البروز في البداية، إلا أنها التزمت بتقنيتي التأني والصبر على المجد، ما أكسبها اليوم المكانة رقم 1 في المضامير المتوسطة خاصة والطويلة عموماً.

بداية ملفتة.. ثم عسر فانفراج

استناداً إلى نسبها والبيئة التي نشأت فيها، وهي منطقة "أرسي" المنتمية إلى إقليم أوروميا نسبة إلى المجموعة العرقية "أورومو" في بيكوجي الإثيوبية، لم يكن لغنزيبي ديبابا أية ملامح أو محفّزات تدفعها للتحرر من طوق العادات الذي تربّت بين أسواره في مجموعة بشرية، لا تزال تؤمن إلى اليوم بالنزعة العرقية وجاهلة بما يمكن أن تتركه ورائها من مظاهر رجعية وتخلّف على جميع الأصعدة، بيد أن ابن الثالثة والعشرين اليوم، تجاوزت كافة تلك القيود بتمهيد مهم رغم رمزيته، قام به من سبقوها من أبناء سلالتها ولا سيما أختاها، تيرونيش وإجيغايهو، لتبدأ "ديبابا الأصغر" في تحسس مضامير السرعة حول العالم.

دشنت غنزيبي مسيرتها مع المضامير المتنوعة عام 2007، واتخذت من سباقات اختراق الضاحية مرتكزاً أساسياً في بداياتها حيث شاركت عام 2007 في نسخة مومباسا في الجنوب الكيني وحلّت خامسة في تجربتها الأولى، قبل أن تتطور سريعاً وتصعد على مسرح الأحداث من بوابة سباق إديمبرا الإسكتلندية لتتوّج بالذهب في 2008.

سمح لها تألقها الملفت على أراضي المملكة البريطانية في العام ذاته من توسيع نطاق طموحاتها لتنتقل بها إلى تحديات أصعب اقتداءً بدرب أختها تيرونيش على وجه الخصوص، وكانت البداية بسباق 5 آلاف متر، وجاءت مشجّعة بالفعل، حين حلّت وصيفة في بيدغوسج البولندية ضمن بطولة العالم للناشئات، وبدأت بالتالي تتذوق حلاوة النجاح أكثر فأكثر بعد أن تمكنت من تسجيل مكسب معنوي ورياضي مميّز لها، وذلك عند تحطيمها أفضل رقم شخصي في الـ5000 آلاف متر بتوقيت 15.02.41 دقيقة، في ألعاب بيسلت بأوسلو النرويجية، وهو السباق ذاته الذي سجّلت فيه أختها تيرونيش الذي شاركت معها، رقماً قياسياً عالمياً جديداً.

لم يتوقف عدّاد غنزيبي عن التطور حيث واصلت اجتهادها ونموّها الذي خوّل لها دخول التاريخ مبكّراً حين أصبحت أوّل عداءة ناشئة تتوّج بالمركز الأول في سباقات اختراق الضاحية لعامين متتاليين، 2008 في إدينبرا الإسكتلندية و2009 في العاصمة الأردنية عمّان، وأكدت العدّاءة اليافعة نهضتها الصاروخية بتتويجها بأول ذهبية لها على مستوى الكبريات على أرضها في أديس أبابا وذلك ضمن البطولة الإثيوبية لألعاب القوى في 2009، وأشفعت ذلك في العام ذاته بكسب قاري جديد من بوابة بامبوس في موريشيوس عند اقتلاعها ذهبية 5 آلاف متر ضمن الألعاب الأفريقية للناشئات.

هاذان الإنجازان الأخيران، فتحا لغنزيبي باب دخول صفوة المنتخب الإثيوبي للمرة الأولى بمناسبة المشاركة في بطولة العالم ببرلين، حيث كان قدرها أن تلبس ثوب "البديلة" لأختها، النجمة العالمية تيرونيش التي تعرّضت لإصابة في أوتار الركبة، وهو ما أثقل هذه المهمّة بوزن صعب التحمل، إلاّ أن غنزيبي أبلت حسناً عندما تأهلت إلى نهائي سباق الـ5 آلاف ولكنها حلّت ثامنة، وحتى هذه النتيجة أرضت الوفد الإثيوبي وأسعدته، كونه لم يكن ينتظر شيئاً من بنت الـ18 ربيعاً في ذلك الوقت.

محطة برلين كانت بمثابة النكسة لخط الصعود الذي انتهجته غنزيبي منذ خطواتها الأولى، ولاح ذلك جلياً من خلال بعض الإخفاقات التي أعقبت هذه المشاركة، إذ خيّبت آمال المنتخب الإثيوبي المشارك في بطولة العالم للناشئات في سباق اختراق الضاحية ببولندا عام 2010، عندما حلّت في المركز الحادي عشر، وهو السباق ذاته الذي سبق وأن توجت به على مستوى الكبريات في البطولة المحلية.

عام 2010 لم يكن جيداً للغاية بالنسبة لغنزيبي لكنّها أنقذته بفوزها ببعض التحديات ومنها اكتشاف ذاتها في سباقات الـ1500 متر من بوابة ملتقى فلاندرز لألعاب القوى داخل القاعة ببلجيكا، والذي سجّلت فيه أفضل وقت لها بـ4.04.80 دقائق، وتتويجها بسباق اختراق الضاحية في أتابويركا الإسبانية للمرة الثانية في تشرين الثاني/نوفمبر من العام ذاته مُزيحة من طريقها البطلة العالمية المعروفة في هذا الاختصاص، الكينية إميلي شيبيت، بينما حلّت في كانون الثاني/يناير 2011 وصيفة في سباق إدينبرا بإسكتلندا والمتوّجه به سابقاً، خلف الكينية لينيت ماساي، هذه الأخيرة الحاملة لذهبية بطولة العالم لألعاب القوى ببرلين عام 2009.

كان من الواضح أن مسيرة غنزيبي قد شهدت بعض التقهقر في 2010 ولا سيما على مستوى السباقات الطويلة التي دأبت على التألق فيها ومنها سباقات اختراق الضاحية والـ5 آلاف متر، إلا أنّ فشلها على أرض الأندلس في بونتا أومبريا الإسبانية في آذار/مارس 2011 ضمن بطولة العالم لسباق اختراق الضاحية الذي حلّت فيه تاسعاً، ممّا خلّف لدى اليافعة الإثيوبية قناعة خالصة بأنّ وقت التغيير قد حان لإيجاد موجة التألق الخاصة بها لا بالماركة المسجّلة لسلالة ديبابا.

موجة الإشعاع والتحرّر من حصار السّلالة

في طريقها نحو الألق العالمي تبنّت غنزيبي حكمة الإمبراطور الروماني الشهير غايوس يوليوس قيصر، الذي قال "أسرع ببطء"، كما فهمتها على النحو السليم منذ البداية، فالقصد هنا هو الحكمة في اتخاذ الأمور، وما يوافق غنزيبي على المستوى الرياضي هو التريث والتبصر في أخذ القرارات الحاسمة في مسيرتها، وهو فعلاً ما طبقته بدءًا بعام 2012 الذي خوّل لها العثور على كلمتها السرية المتعلقة بالسباق الأميز الذي تفجّر من خلاله جميع خصالها.

من الأكيد أنّ كلّ متفحّص في مسيرة البطلة الإثيوبية الواعدة، سيتفطّن بالضرورة إلى ملتقى فلتكلاسه داخل القاعة، الذي تحتضنه مدينة كارلشروه الألمانية، وهو من كان فعلياً نقطة البداية الحقيقية لغنزيبي لتعانق الإبداع، حيث كان توقيت 4.00.13 دقائق كفيلاً بتصنيفها خامس أسرع عداءة في التاريخ تفوز بهذا السباق، لتنطلق إثر هذا السباق "الإكتشاف" ملحمة ديبابا الصغرى على المضامير، محققة رصيداً ثرياً من ضمنه فوزها بسباق الجائزة الكبرى بملتقى "أفيفا" داخل القاعة في بيرمنغهام، والذي تلاه تحقيقها لأول لقب عالمي في بطولة العالم لألعاب القوى داخل القاعة بإسطنبول التركية عام 2012.

بعد تأكدها من اختيارها خطّها السليم ركّزت غنزيبي على كل ما من شأنه أن يعزّز قدراتها في المسافات المتوسطة، وهو ما كان يلبس ثوب الجلاء في كل مناسبة تقتحمها، على غرار حصدها لأفضل رقم قياسي إثيوبي مسجّل خارج القاعة في سباق الـ1500 متر في ملتقى الجائزة الذهبية الكبرى في شنغهاي الصينية الذي بلغ 3.57.77 دقائق، علاوة على حلولها ثالثة في الملتقى السنوي للنجوم في العاصمة الإيطالية روما، ووصيفة في ملتقى بيسلت النرويجي، ليضعها كلّ ذلك في منصب المؤهلة عن جدارة للعودة إلى صفوف نخبة العدّائين الإثيوبيين المشاركين في أولمبياد لندن صيف العام 2012.

حدث الأولمبياد كان فرصة تاريخية ومنصّة عالمية لا يدور الجدال حولها، لتحقّق غنزيبي الإقلاع الذي تصبو إليه منذ أن احترفت فن العدو على أرض المضامير، إلاّ أنّ القدر لعب معها لعبة "تكرار الزمن" حين سقطت في اللفة الأخيرة من السباق النهائي لـ1500 متر ما أجبرها على الانسحاب منه غصباً، بفعل إصابة لعينة على مستوى أوتار الركبة.

حطّمت الإصابة قلبها وأحسّت معها أنّ حلم إثبات الجدارة وتبيان الذات قد اندثر، بيد أنّها وبعزيمة لا تلين وإيمان غير محدود بالقدرة على بلوغ النجاح، أعادت لنفسها نكهة الركض مجدّداً، وهذه المرة بالعودة إلى حنين سباقات اختراق الضاحية، ولكن هذه المرّة عبر إحداثيات متعلقة بالمسافة التي غيّرتها من 5 آلاف متر "المتعوّدة عليها" إلى 3 آلاف متر.

كان من المجازفة أن تُحدث غنزيبي مثل هذه التغييرات الجذرية في هذا الوقت المحرج من مسيرتها، حيث كانت في حالة نفسية رثّة وبحاجة إلى أيّ إنجاز يرمّم المعنويات، غير أنّها أبت إلاّ تحدّي ذاتها قبل الجميع، وأثبتت أنّ قلبها صلب وثابت كأقدامها، لتعود بقوّة وتسجّل تتويجها بثلاث استحقاقات في عام 2013، متمثّلة في سباق إدينبرا الإسكتلندي خارج القاعة (على أرضية عشبية) وسباقي كارلشروه الألماني وبيرمنغهام الإنكليزي، داخلها، بالإضافة إلى تسجيلها أفضل رقم شخصي لها في سباق الـ1500 خارج القاعة على أرض الدوحة بتاريخ 10 آيار/مايو 2013.

العزيمة ونواة الإبداع والموهبة التي تمتلكها، جميعها رشّحت غنزيبي مبكّراً لإثبات شخصيتها المتفرّدة والمستقلة خاصة عن أقربائها في "جمهورية العدو الديبابية"، وأبرزهم تيرونيش (28 عاماً) شقيقتها والبطلة الأكثر شهرة بألقابها الأولمبية الثلاثة (بيكين 2008 في سباقي 5 آلاف و10 آلاف متر ولندن 2012 في 10 آلاف متر أيضاً)، والعالمية الخمسة (باريس 2003، لقبان في هلسنكي 2005، أوساكا 2007، موسكو 2013) وعدد من الألقاب الأخرى انقسمت بين سباقات اختراق الضاحية والألعاب الأفريقية، لتكوّن جميعاً 15 لقباً توشّح بها تيرونيش صدارتها لسلالة ديبابا في ميادين العدو.

لا يتوقّف الأمر عند هذا الحد، بل أنّ "محنة" غنزيبي مع تميّز سليليها مستمرة، إذ لديها أخت أخرى، وهي الكبرى، إجيغايهو ديبابا (32 عاماً)، حاملة فضية سباق الـ10 آلاف متر في أولمبياد أثينا 2004 والفائزة بسباقي هلسنكي لمسافتي الـ5 والـ10 آلاف متر في بطولة العالم عام 2005، كما أنها قريبة العدّاءة المتألقة سابقاً ديرارتو تولو المتوّجة بذهبيتين أولمبيتين في سباق الـ10 آلاف متر في برشلونة 1992 وسيدني 2000 وبرونزية في أثينا عام 2004، إضافة إلى ذهبية أخرى في بطولة العالم بإدمونتون الكندية وجميعها في الاختصاص عينه.

كما لم ينته "صداع التألق العائلي" لدى غنزيبي، فمن الطرائف أنّ أختها تيرونيش متزوّجة بالبطل الإثيوبي الآخر، سيليتشي سيهاين، صاحب الميداليتين الأولمبيتين الفضيتين في أثينا 2004 وبيكين 2008 في سباقي الـ10 آلاف و4 ميداليات في بطولة العالم (3 فضيات وبرونزية) وذهبية الألعاب الأفريقية في أبوجا النيجيرية عام 2003.

الخبر بالكامل
رأيك يهمنا